|
عمّان - عمر أبو الهيجاء منذ البداية تضع الكاتبة اللبنانية براءة الأيوبي القارئ في مواجهة أحداث روايتها "حقل ألغام"، مؤكدة له: "لا تعبث بصفحات هذا الكتاب، فثمّة ألغامٌ مزروعةٌ بين دفّتيه". فما هي حقيقة هذه الألغام وكيف وجدت كنبت شيطاني في أرض كانت منبعاً للخير والعطاء. تدور أحداث الرواية الصادرة عن "الآن ناشرون وموزعون" الأردن (2025)، حول الشخصية المحورية "أركان" الشاب الذي يمثل رمزاً للوطن، حيث تعصف به ظروف الحياة وتبدل أحواله، تماماً كما حدث في وطنه لبنان الذي عاش في خضم ظروف أزمة اقتصادية طوقته كما السوار بالمعصم، وكان لها تداعياتها على مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والأمنية، وقد نجحت في تحويل الطبقة الاجتماعية المتوسطة إلى طبقة كادحة لا تكاد تجد قوت يومها، ويبرز مع البطل نموذج آخر يحمل رمزاً لأوضاع البلاد وهي المرأة بائعة المناديل التي يطلق عليها أركان اسم "ثورة"، وهي تظهر وتختفي في أشد المواقف الصعبة التي يواجهها البطل الذي يظل يتساءل عما يحدث حوله من مجريات: "لا أعرف أيّ داءٍ تفشّى في هذه البلاد، لتضيع بوصلة الحياة فيها، وتنهار الكرامات أمام ذُلٍّ ومماطلةٍ وسوء حكم..!! فجأةً صحونا على حالٍ من الشقاء والابتلاء دون أن نكون في جهوزيّةٍ لأيّ مواجهة، وانتقلنا إلى عالمٍ غريبٍ عنّا، وشبهَ حياةٍ لم نملك أبجديّتَها يوماً، فتلاطمتنا الانهزامات وضِعنا بين نكبةٍ من هنا وفاجعةٍ من هناك". يعيش أركان طفولة يمكن وصفها بالمستقرة، تماما كما كان لبنان قديما بلداً مزدهراً: "في الماضي، لم تكن الأمور كذلك، أذكر طفولةً حلوةً، وسنوات عمرٍ يافعة تنبعث فيها الأمنيات من الفراغ. حتى اسمي أركان، حمل لي اعتقاداً بوفرة الأحلام في هذا العالم. جاء اختيار والدي له اعتماداً على حادثةٍ لطالما أعادها على مسمعي مراراً وتكراراً. قال لي أنّه لمح في عينيَّ يوم ولادتي نظرات عزّةٍ ورِفعةٍ لم يشهد لهما مثيلاً لدى أيّ طفلٍ من قبل. وعندما اجتمع مع والدتي ليختارا لي اسماً، غابت عن ذهنه كل الألقاب ولم يتبقَّ سوى كلمة أركان، بمعنى شريف القوم وأعزّهم مكانة". لكن ما تلبث الظروف الصعبة تلف واقع "أركان"، فالمرأة الوحيدة التي أحبها وارتبط بها تموت فجأة من غير أن تترك له طفلاً منها، ووالدته التي ارتبط بها تموت أيضاً، وصديق طفولته خاطر يفقده بعد أحداث زلزال تركيا المدمر، ولأنّ التعلّق بالمكان والشعور بالانتماء أمرٌ طبيعي، سيعاني "أركان" طويلاً قبل أن يتوصل إلى قناعةً بضرورة الرّحيل، ليختار أرض الكنانة مستقرّاً له، وحتى بعد انتقاله للاستقرار في الخارج، تواجهه العديد من المواقف التي تبدو طبيعيّةً في بلد يخوض معاركه الخاصة لمواجهة مختلف التحديات. وتمثل حادثة اعتقال "أركان" مفصلاً مهماً في الرواية، ففيها يدرك أي منحدر وصلت إليه أوضاع البلاد، ويستقر في داخله إيمان عميق بأن الأسوأ سيأتي: "بين حيرةٍ وتردّدٍ واستغراب، استمرَرتُ في وضعيّتي حتى أتاني صوتٌ خشنٌ باردٌ، أمرني بالوقوف في الحال. على حذرٍ رفعتُ رأسي، لألمح رجل أمنٍ قاسي الملامح يقف موجّهاً سلاحه إلى رأسي. جفاف حلقي امتدّ ليضرب شرايين قلبي، وأوردة الروح، فاستقمتُ جالساً، مع فشلٍ ذريعٍ في الوقوف. مددتُ يدي إلى رجل الأمن طالباً منه المساعدة، فما كان منه إلّا أن دفعني إلى الخلف بسلاحه صارخاً بصلفٍ، ووجدتُني محاطاً بالعديد من رجال الأمن الذين مارسوا على ضعفي الكثير من الشدّة والقسوة. ما كلّ هذه البشاعة المتفشّية فوق هذه الأرض! هكذا وفي غفلةٍ عمّا يجري، عثرتُ على نفسي مكبّل اليدين، ومطوّقاً بالشرطة، كمجرمٍ بالغ الخطورة، أو مرتكبٍ لإثمٍ يستحق العقاب". لكن الرواية تبقي على بصيص أمل، إذ يكتشف القارئ أن المكاملة التي يتلقاها "أركان" بعد سنوات من فراقه لصديقه كانت من صديقه "خاطر" الذي اعتقد أنه مات بعد الزلزال المدمر. يعود "خاطر" من جديد كما لو بعث مرة أخرى، ليسرد ما مر به من أحداث أعقبت الزلزال الذي تسبّب بخسارته لعائلته، وفقدانه لساقه وتشوه في ملامح وجهه: "قضيتُ فترةً طويلةً جدّاً في المستشفى فاقداً للذاكرة وفي حالٍ خطرة.. وبعد أن استعدتُ بعضاً من ذاتي، سعيتُ للتواصل مع الحبيب أركان غير أنّني فشلت فشلاً ذريعاً. فلا الرقم الهاتفيّ يعمل، ولا وجودَ له مطلقاً على وسائل التواصل الاجتماعيّ... وفي المرّات القليلة التي عدتُ فيها لزيارة البلد أتيتُ إلى شقّته دون أن أتعثّر بأيّ حضورٍ له... لا أعرف ما الذي أتى بي اليوم إلى هنا، طائرتي إلى اسطنبول ستغادر عند الفجر، لكن ثمّة قوةٌ دعَتني إلى ارتياد المكان رغم مروري البارحة ولقائي الاعتياديّ مع الغياب". وتترك الكاتبة الخاتمة مفتوحة وكأنها خط مفتوح على حوار بين صديقين افتراقا عمراً: "بيدين متعرقتين أحكم قبضته على الهاتف الذي راح يرسل تردّداته رنيناً متواصلاً استمرّ دهراً من اللهفة، قبل أن يأتيه صوتٌ طريٌّ محبّبٌ يحمل بين ثنياته عمراً من الصداقة والأخوّة واللحظات الطيّبة التي لن تعود.. آلوووو.. من معي؟! وباشتياقٍ تجاوز حدود التقدير أجاب خاطر والدموع ترسم نبضاً فوق وجنتيه: آلووو.. عزيزي أركان هل تسمعني؟ هل هذا أنت فعلاً، أم أنّني ضللتُ الطريق؟". تمتد مسيرة الأحداث على مدار سنوات يلتقي "أركان" فيها بعدّة شخصيات تمثل نماذج طبقيّة مختلفة، تصبح فيما بعد محرّكاً فاعلاً في أحداث الرواية، وإذا أضفنا إلى ذلك النكبات الطبيعيّة كالزلازل والأحداث السياسيّة والعسكريّة كالحروب التي عصفت بالمنطقة خلال هذه الفترة، سندرك كمّ الألغام التي ستعترض البطل وأيضاً القارئ أثناء العبث بصفحات الرواية.. الرواية التي تقع في حوالي 340 صفحة تُدخل القارئ في صميم معاناة المواطن اللبناني التي طالته بفعل الأزمة، بكافّة مكوّناتها وتفاصيلها، ليجد نفسه منغمساً في مشاكل ربّما لم يكن يعلم بوجودها في هذا البلد الصغير الرابض على سواحل المتوسط. يذكر أن الكاتبة براءة الأيوبي حاصلة على إجازة في العلوم السياسيّة والإداريّة من الجامعة اللبنانيّة، وشهادة الكفاءة من كليّة التربية (الجامعة اللبنانيّة). صدر لها: نصوص "ذاكرة الروح"، وشهادات "أحاديث الجائحة - شهود من أهلها" (مشترك)، ومجموعة قصصية بعنوان "المسكونة"، ومجموعة من الروايات هي: "ورد جوري"، "حياة ترف- ظل بديل"، و"ربطة عنق". الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: السبت 17-05-2025 09:40 مساء
الزوار: 40 التعليقات: 0
|