وأشار المتحدثون في الندوة وهم الدكتور مجد الدين خمش، والدكتور سليمان البدور، وادارها المترجم نزار سرطاوي. إلى أن الشاعر مصطفى وهبي التل، المعروف بلقبه الأدبي "عرار"، يُعدّ أحد أبرز رموز النهضة الأدبية والفكرية في الأردن والعالم العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين. وُلد في مدينة إربد عام 1897، وتميّز منذ شبابه بروحه الثائرة، وفكره المستنير، ومواقفه الجريئة في مواجهة الاستعمار والظلم الاجتماعي والسياسي.
بينوا في الندوة التي أقيمت أول من أمس في مقر رابطة الكتاب الأردنيين، أن شعر عرار جمع بين البعدين الإنساني والاجتماعي، وانحاز بوضوح إلى قضايا الفقراء والمهمّشين، خاصة الغجر، الذين اتخذهم رمزا للحرية والانعتاق من القيود المجتمعية والسياسية. كما عبر في قصائده عن قضايا وطنه وأمته، فكان صوته عاليا فيها.
تناولت ورقة الدكتور مجد الدين خمش التي جاءت بعنوان "مصطفى وهبي التل (عرار) – الشاعر المجدد"، مبينا أن الشاعر مصطفى وهبي التل سعى في عام 1942 إلى التجريب في بنية القصيدة الأردنية، فأدخل الحداثة إلى الشعر الأردني والعربي، من خلال كتابته لقصائد على نمط الشعر الحر، ولا سيما قصيدتيه: "أعن الهوى" و"متى يا حلوة النظرات".
ويمتاز هذا النمط، المعروف بـ"شعر التفعيلة"، بعدم الالتزام بالوزن والقافية التقليديين المرتبطين بالشعر العربي الكلاسيكي، مع التركيز على تعددية الأصوات والإيقاع الداخلي في النص، مما يمنح الشاعر حرية أوسع في التعبير عن مشاعره واستحضار الصور الشعرية.
وأشار خمش إلى أن بعض النقاد يرون أن عرار سبق بدر شاكر السياب ونازك الملائكة في تبني هذا الأسلوب، وهو ما أكسبه تميّزا رياديا في تأسيس حركة الشعر الحديث في الأردن والعالم العربي.
وأوضح أن لقب "عرار" اختاره الشاعر بنفسه، تشبها بنبتة "العرار" الصحراوية العطرية، بينما يرى البعض أنه استلهمه من اسم الشاعر العربي "عرار بن عمرو بن شأس الأسدي". وقد أصدر عرار عدة دواوين شعرية من أبرزها: "عشيات وادي اليابس، الأئمة في قريش، أوراق عرار السياسية، وبالرفاه والبنين"، مشترك مع الشاعر خليل نصر.
وقد ترك عرار أثرا عميقا في شعراء السبعينيات وما بعدها، ممن أسهموا في ترسيخ مدرسة الشعر الأردني، مثل سليمان المشيني، وحيدر محمود، وحبيب الزيودي، وغيرهم.
واستعرض خمش إحدى قصائد عرار، وهي بعنوان "أعن الهوى"، يقول فيها: "أعن الهوى وعن الحنين / أعن الصبابة والصبا / ومن الجوى تتحدثين / هيهات أحلام الشباب، وقد تقلص ظلّه / هيهات."
وأكد خمش أن قصائد عرار تميّزت بلغة بسيطة تصل إلى المتلقي العادي والمثقف على حدّ سواء، كما تميّزت برموزها الفنية القريبة من وعي الناس ومشاعرهم في المدينة والريف والبادية. لذا نجد في شعره توظيفًا للجمل الشعبية الشائعة، بإدراجها في سياقات شعرية جديدة تعبّر عن رفض الظلم والتعسف والتهميش، كما عبّر عن تمرده على تقاليد المجتمع وقسوته تجاه الفقراء والمعوزين.
وأضاف خمش أن عرار تحالف في قصائده مع الفلاحين والفقراء والمهمّشين، خاصة الغجر، وهاجم الظلم والاستغلال الذي تعرضوا له من قبل التجار والمرابين وبعض موظفي الدولة، مطالبًا بالعدالة والمساواة. ونرى في شعره حضورا واضحا لهؤلاء المهمشين، ورفضا للواقع الطبقي السائد آنذاك، ما يجعل شعره توثيقا صادقا لمرحلة اجتماعية من تطور عمّان والأردن عامة.
كما تنوعت موضوعات شعره بين الوطنية والسياسية والإنسانية والغزلية، فتغنى بجمال عمان، ووادي السير، وعجلون، ومضارب الغجر، وعبّر عن حبه للمكان الأردني، فقال في إحدى قصائده:"يا جَبرةَ البانِ ليتَ البانَ ما كانا / ولا عرفنا بوادي السير خِلّانا / من ماء راحوب لم يشرب وليس له / ربعٌ بجِلْعاد أوحي بشيحانا."
وأشار خمش إلى أن عرار استخدم شخصية "عبود" الرمزية التي ابتكرها، لتعكس مشكلات المجتمع، وليوصل رسائله بلغة سلسة مفهومة، تتغنى بها مختلف فئات الناس، وتُستخدم في حياتهم اليومية لمقاومة الظلم والاستغلال.
وخلص خمش إلى إن بعض النقاد يرون أن علاقة عرار بالغجر تعكس اهتمامه بأسلوب حياتهم، وتوقهم للحرية ورفضهم للرتابة، وهو ما ينسجم مع طبيعته المتمردة. وقد تأثر برواية "كارمن" للمؤلف الفرنسي بروسبير ميريميه، التي نُشرت عام 1845، وتحكي عن حياة الغجر في فرنسا وإسبانيا، وتحولت لاحقا إلى أعمال سينمائية وأوبرالية، وقدمت صورة رومانسية جذابة لحياة الغجر. هذه الصورة، كما يرى خمش، ربما أثارت إعجاب عرار، فباتت "الغجرية" في شعره رمزا للتمرد والانعتاق من القيود الاجتماعية والسياسية
من جهته، تحدّث الدكتور سليمان علي البدور عن البُعد التاريخي في شعر عرار، موضحا أن العديد من قصائده تضمّنت وقائع تاريخية إمّا بشكل مقصود أو كجزء من سياق شعري عام. واستعرض سيرة الشاعر الذي وُلد في الساعة الحادية عشرة من صباح الأربعاء، 25 أيار 1897، وسُمّي "مصطفى" تيمنا بجده، وأُضيف إليه "وهبي" وفق عادة عثمانية متّبعة.
كما تحدّث البدور عن أول فصل من فصول التمرد السياسي في مسيرة عرار، مبينًا أنه بعد إنهائه المرحلة الابتدائية، التحق عام 1912 بمدرسة "عنبر" في دمشق. وفي أحد الأيام، أضرب طلاب المدرسة عن حضور الدروس، مطالبين بتحقيق الأماني العربية في الاستقلال، عبر تطبيق نظام حكم لا مركزي.
ثم تحدّث البدور عن استخدام عرار للشعر وسيلة للوعظ والإرشاد القومي، مشيرًا إلى أنه بعد انهيار الحكم الفيصلي وتجزئة سورية الكبرى إلى دويلات صغيرة، التقى عرار عام 1922 بالصحفي الفلسطيني نجيب نصار، صاحب جريدة "الكرمل الحيفاوية"، والتي كانت تُحذر العرب من خطر الصهيونية العنصرية ومن الطائفية البغيضة التي كانت تمزق النسيج الاجتماعي العربي في فلسطين آنذاك.
وقد بدأ الاثنان معا بالتبشير بالفكر القومي العربي، والتحذير من الأطماع الأجنبية في البلاد العربية، وخاصة في فلسطين. وفي عام 1923، زارا مدينة الناصرة، حيث وجّها دعوات لفئات المجتمع من المسلمين والمسيحيين إلى نبذ سياسة الاتجار بالدين، والدفاع عن وطنهم الواحد وقوميتهم الجامعة.
وفي عام 1925، شدّ كلٌّ من عرار ونجيب نصار الرحال إلى مدينة الكرك، حيث شرعا في الدعوة إلى الوحدة الوطنية ومقاومة الاستعمار.
ورأى البدور أن عرار سعى إلى التعبير عن آرائه بحرية من خلال تأسيس منبر إعلامي خاص. ففي 29 نيسان 1928، حصل عرار على موافقة رسمية لإصدار جريدة خاصة به أسماها "الأنباء". كتب مادتها الافتتاحية وأتمّ طباعة صفحتها الأولى في المطبعة الوطنية لصاحبها نوري السمان، غير أن دائرة المطبوعات والنشر صادرت العدد قبل أن يرى النور.
وأشار البدور أيضا إلى القصيدة التي رثى فيها عرار الشريف الحسين بن علي، عقب وفاته في 4 حزيران 1931، والتي تبرز تقدير عرار لمكانة الشريف الحسين ودوره التاريخي.