" لِكُلِّ مقامٍ ، مقال " ـ ولكيْ أٌقيمَ مقامَ القصيدة لابدّ لي من استحضار تعريفها القديم والحديث وفقَ ما قيل عنها في الكتبِ ، وفي التعريفات النقدية المتعدّدة ـ التي اتفقت على كونها كالتالي :
ـ كانت القصيدة في العصر الجاهلي من أعظم الفنون السائدة وأهمها على الإطلاق ، وكان لصاحب القصائد وهو الشاعر مكانة لا تضاهيها مكانة ..
ـ وقد عرفت في ذاك الوقت بانها شعر غنائي : أي تدور حول موضوعات عاطفيه ، مديح لشيخ قبيلة أو مضيف كريم ، أو فخر بعز قبيلة وأخلاقها ، أو رثاء لأحباء التهمتهم نيران الحروب السائدة ، أو غزل عفيف للحبيبة وبكاء على الأطلال أو وصف لمحيطهم من بوادي وخيل وإبل وسماء ...
ـ أمّا في العصر الحديث ، فقد مرت القصيدة العربية بعدد من التغيرات بداية ، بكسر القافية على يد عدد من الشعراء العرب منهم : " بدرشاكرالسياب" و " نازك الملائكة " فيما عرف بعد ذلك بقصيدة التفعيلة والتي أخذت مساحة واسعة من الانتشار في منتصف القرن العشرين.
ـ ومع السبعينات ظهر نوع جديد من القصيدة هو قصيدة النثر وإن كنت معروفة منذ القدم في التراث العربي لكنها أكدت وجودها وانتشرت في السبعينات على يد جيل ممن عرفوا بالشعراء الحداثيين ..
و في التسعينات ازداد بقوة وجود " ما سمي " قصيدة النثر " خصوصاً مع ظهور جيل جديد من الشعراء الشبان الذين ابتعدوا في شعرهم عن الهم العام ، وكتبوا قصيدتهم الخاصة معتمدين على التفاصيل اليومية والحياتية والذاتيات وهو ما لاقى نقداً شديداً من النقاد الكلاسيكيين ..
ـ والقصيدةُ عربونُ كلامٍ فوق العادة ، وهي من الإلهام تأتي بغتة ، تستيقظُ وتوقظ صاحبها في أعماق الليل وتستفيق باكرا وإذْ تنامُ ، تنامُ على حلم أو على أنين ..
والقصيدةُ هي المتّصلةُ بالوجود لا تنفصلُ عنه ولا ينقطعُ ذكرها وقد انتسبت إلى الشّعر ـ ولا علاقة لها بالنثر لأنّ الله حدّد هوية الشعر، وأصله ومهامه " وهو علم تامٌّ وشاملٌ كما جاء في الإحالة القرآنية التالية : "وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لهُ " ...
ـ وذكر الشعراء في النّصّ القرآني ـ ذلك في سورة " الشعراء " وعدد آياتها 227 ـ لتكون الآيات الأخيرة فيها ناقلة بالصّريح من هم الشّعراء المغضوب عنهم ؟ في ثلاث آيات : " وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلۡغَاوونَ "224 ، أَلَمۡ تَرَأَنَّهُمۡ فِي كُلِّ وَادٖ يَهِيمُونَ " 225 ، وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ" 226 ..
ومن هم الشّعراء المرضِيِّ عنها فِي الآية الأخيرة "
ـ "إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱنتَصَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَيَّ مُنقَلَبٖ يَنقَلِبُونَ " 227 ... وفي مضمونها إحالة إلى قيم راقية ـ تنقلُ الشعراء من الوجود إلى العدم ثمّ الآخرة وهي : عملّ الصّالحات ، وذكر الله كثيرا ، والانتصار لأنفسهم وللمؤمنين ضدَّ الظلم والظالمين ـ
ـ وللقصيدة أبعادها الوجودية ، فهي القراءة الشاملة في يقين الشّاعرقبل ولادتها تنطلق من الذات وغالبَا ما يكون للنفس تأثيرها انطلاقا من الأحاسيس ، ومن المشاعر وأيضا من المخزون العلمي والثقافي المكتسبُ فلا تكون القصيدة مؤثرة وصحيحة إلاّ عندما تنهلُ من الينبوع الفكري والمعرفي للشّاعر، فقد يكون هذا الأخير موهوبا من الله ـ وأنه " ينبغِي له أن يكونَ شاعرا " أو بالوراثة لأنّ الشّعر حتّى وإن راج تدريسه في المدارس والمعاهد والجامعات ـ وفق مراحل التعليم ـ فإنه لا تنطلٍقُ من معرفته والنبوغ في دراستة لكي يمنحَ الطّالب شهادة علمية ـ تحدّد صفته ، ووظيفته المهنية في المجتمع ولكن يمكنُ أن يكون َ " ناقدا " بإمكانه التقييم ويمكنه القراءة بين السّطور وفي المعاني ، وفي المجاز، ويدرك بعلمه المكتسب الوقوف على قيمة اللغة في النصّ وبوسعه الاستقراء ، والاستنتاج وتطبيق ما جاء في مختلف المدارس النقدية القديمة والحديثة ليطبّق قاعدة " الكلام على الكلام " وهي من أصعب القواعد ـ فيُقال " ناقد أكاديمي " ، ويُعتمدُ عليه خلال الندوات العلمية والملتقيات الأدبية ـ ويكتسب بهذه الشهادة العلمية مكانة متميّزة ـ وتستقرّ نفوس الشعراء على ما يُنجز لفظيا وفي الكتب _ من طرف هذه الشريحة ـ غير أنه لا يخرج من الكليات بدرجات علومها من ـ تُنسبُ إليه صفة الشاعر ..
ـ فالعصاميُّ غالبا ما يكونُ مميزا عن غيره إذا انتبه إلى ما وهبهُ الله ، وما أنعم عليه من نعم أهمها ـ العقل والفؤاد ، والبصيرة ، والاجتهادُ والسعيّ لكي يذهب بموهبته إلى أبواب المعرفة المفتوحة فيوطّن مشروعه الإبداعي على أسس فكرية وعلمية ، فيحوز مكانته ويعلِي كلماته فوق المراتب ويفعّل قدرته على التجاوز والبلوغ من خلال اللغة أوّلا ـ وبالأساس ـ ومن خلال اقتناص الصور وتمكينها من الأضواء ومن الألوان ومن الإيحاءات ويدرّبها على الإيقاعات حتّى تكون راقصة مع الأوزان ومع التفعيلة ـ بعيدا عن التقيّد بالقافية وما فرضه الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ من خلال " نظام البيت " لإقامة " نظام القصيدة " ـ وهو الذي يتماشى الآن وهنا مع الحداثة بمفهومها الصحيح والذي يفرض هيمنته .
ـ وفي تعريفٍ شعرِيٍّ أسوق من عندي التعريف التّالي :
ــ القصيدةُ ــ
القصيدةُ تأتي من الغيبْ
وإذ تتراءَى
تهبُّ الى شمها النسماتُ
تُحيط ُبأنفاسِها
وتُعمِّقُ فتحَ الخُروج
من اللغةِ المُبْهَمَهْ
ـ تُلخِّصُ مدلولَها في شهودٍ لها في الوجودْ
ومن كشفِها تترفَّع فوق السُّمُوِّ
فلا هيَ كالوصْفِ
لا هِيَ مثل الحديثِ الدَّعِيِّ
بل الوصلُ بين الملامحِ والرُّوحْ
وإذْ تحتِوي ، تكتوِي ، وتفُوحْ
لهذا تَجِدْ ريحَها في الأريجْ
ومن روحها في البهيجْ
ومن عقلْها تتفَتَّقُ أسفارُها وتَرُوجْ
ومنْ فوقِها تَتَسَامَقُ فوقَ البُرُوجْ
إِلى ظْلِّهَا فِي المُرُوجْ
وتظهَرُ في الصَّمْتِ بَغْتَهْ
إذا نطَقَتْ أحْكَمَتْ نُطْقَهَا
واستقَرَّتْ على عُهْدَةٍ فْي البَدِيعْ
ولا تَتَوَسَّمُ إِلاَّ رُجُوعًا
إِلى متْنِهَا فِي الشُّيُوعْ
وحينَ تُذْيعُ ، تُذِيعُ مِنَ الرُّوحِ
مِنْ رُوحِ شَاعِرْ
فالقصيدة اختراق للسائد المنطوق والمكتوب لأنها تتفوق على السرد بتحريك الأصوات الساكنة ، وتمزيق السكون وتمكين الدوران اللغوي لتحقيق شواهد الإبداع من خلال الصور المركبة التي تحيل في داخلها قوس الألوان حتى يتراءى مع الشمس في الغمام
والقصيده لا تخفي استحوازها على كل العلاقات التي يحتويها الوجود فهي التي تقرأ لتكتب ، وهي التي تحيل من الغموض إلى الوضوح ، ومن الحزن إلى البكاء ، ومن الشك إلى اليقين ومن الموت إلى الحياة ومن اليأس إلى الطموح ومن الخنوع إلى الاختراق والتحرر
والقصيده في الحقيقة وفي الخيال وفي الفصول كلها وبين الحراثة والحصاد وهي التي تدون للتاريخ والحضارات وهي الكاملة الشاملة
وللقصيدة رأيها وقراراها في حسم فلسفة الحياة فلا تغيب عن تحديد هوية الشعراء ورغم أنهم كثر ومستمرون مع الطبيعة والوجود فإن لكل شاعر بيته ولكل شاعر أنفاسه وبصمته ولكل شاعر منهم طريقته لفرض صوته بين الأصوات ، ولكل شاعر اتجاهه ووجهته ، وفي واسع انتشارهم _ هم واجب الوجود _
وبهذا التّصور، يكون الشعر مرادفًا للقلق الوجودي، حيث إن المسافة بين كينونة الشاعر وعالم التشظي قصيرة مما يسمح بالتجاور وربط علاقة حميمة ووثيقة بينهما.
وللشاعر حظ التلقي من الحياة اكثر من غيره ،ومن حقه أن يتَلَمَّسَ قلقه الوجودي، وأن يفكر فيه، فلا معنى للكتابة من دون تفكر وتساؤل وتخيل ، ولا بد من خلق جسرٍ من التخييل والصياغة والبناء.
فالكتابة في كلياتها هي أصل الوجود
فالمثل يقول _ " أن تكتب معناه أن تنسى كل شيء. ففي النسيان تتجدد المعرفة بالوجود، تلك المعرفة الخلاّقة، الكاشفة للشعر بما هو فكر وجمال وأفق. هكذا، يتحقق تصور أن ثمة في الوجود، ما يجعل الشاعر داخل الكتابة، يَتَنَفَّسُ هواءها، حيث يصير الشعر صيرورة وتحررًا من كل السياجات.
فلا قصيدة خارج الرغبة في المغامرة والاكتشاف والتجريب.
فالشعريات الكونية التي لها تاريخ جعلت القصيدة مفتوحة على الجرح الإنساني، فهي بهذا مختلفة ومغايرة ومتحرر ة من كل أشكال العمى والتقليدانية.
فالقصيدة قريبة من الوحي ،تأتي في لحظة الانحباس كأنها هبة روح تفوح في ضرورة ولادتها ، وتعني ما تقول
لهذا تظل القصيدة منخرطة في كل معاني الوجود متصلة بالسير والوقوف ومعلقة في الأراجيح ونواعير الطواحين كلما هبت النسمات ، وكلما تعاقب الليل والمساء ، وستظل قائمة بين كلامها والكلام عنها حتى يأتي ناقد يخطب ودها _ فتضحك وهي التي تغار من أخواتها ومنافساتها بين القدود .. الخ .. الخ .. الخ..