|
سمير اليوسف في عالم القصة القصيرة، عالمٍ تتضارب فيه الصور وتتماهى فيه الحقائق مع الظلال، تتكثف الحياة ضمن لحظات، وتتجلى الشخصيات في لمحات، وتُرسم العوالم الداخلية من خلال أنفاس متقطعة وأصوات خافتة. تأتي مجموعة أنفاس مكتومة للقاص الدكتور زياد أبو لبن، كصرخة مكتومة في برية الأدب، كأنّها زفرة حارة تخرج من صدرٍ مثقلٍ بالتجربة، نابضٍ بالرؤية، ومشحونٍ بفهمٍ عميقٍ للطبيعة الإنسانية. ليست هذه المجموعة القصصية مجرّد لوحات سريعة للحياة اليومية، بل هي مشاهد ملتقطة بعينٍ فاحصة، وروحٍ تمتح من الفلسفة رموزها، ومن الشعر إيحاءاته، ومن الإنسان هشاشته ومجده. فيجد القارئ نفسه أمام باقة من القصص التي تستنطق المسكوت عنه، وتُصغي لهمس الذات في لحظات توترها أو انكسارها أو اكتشافها البطيء لذاتها. المجموعة مؤلفة من تسع عشرة قصة هي: أنفاس مكتومة، في السر، دينا، ليلى، سارة، سعاد، دلال، لبنى، بيسان، نوران، رنيم، نيدانة، فرح، حلم وردي، حبّة الكستناء، حلم، وطن، قنطرة، والشطرنج. وتمتدّ على 76 صفحة من التكثيف السردي والانسياب اللغوي، متنقّلة بين عوالم الطفولة، والعائلة، والوطن، والأنوثة، والوجع الوجودي، والاغتراب. ما يلفت النظر ابتداءً، هو أن 11 قصة في هذه المجموعة تحمل عناوين بأسماء فتيات: دينا، ليلى، سارة، سعاد، دلال، لبنى، بيسان، نوران، رنيم، نيدانة، فرح، ابتسام، وسلوى، وهو ما يُحيل إلى أن التجربة الأنثوية هي جوهر هذه المجموعة. ومع أن بعض القصص تحضر فيها شخصيات ذكورية أو تنطلق من رؤية ذكورية، إلا أن القاص زياد أبو لبن اتخذ في معظم الأحيان صوتًا نسائيًا يعبّر عن مكبوت أو يُقاوم سلطة أو يكتشف الذات في ظل تقييد اجتماعي. تعتمد الحبكة في هذه المجموعة غالبًا على لحظة اكتشاف أو وعي داخلي، لا تصعيد درامي تقليدي فيه عقدة وذروة وانفراج، بل لحظة تأمل أو صدمة أو قلق. في قصة نوران، مثلًا، تنكسر الطفولة حين تموت دميتها، لكنها تستعيد الحياة حين تعيد الأم الحياة للدُمية بتبديل البطاريات. هنا الحبكة ليست في الحدث بقدر ما هي في التحوّل الداخلي، فالموت والحياة لا يُقاسان بنبضات القلب فقط، بل بما يُلامس وجدان الطفلة. الرمزية في المجموعة تحضر عبر الأشياء اليومية التي تحمل دلالة أعمق: الدمية في نوران، القط في دلال، السن المكسور في لبنى، المربع الخماسي في سارة، ورق اللعب في الشطرنج. كلها رموز لا توضع في مكانها عرضًا، بل تشير إلى أزمنة الطفولة، ومراحل التحوّل، ومكامن الرغبة أو الخوف. كما تتسم الصور البلاغية بالنعومة والانزياح غير الصاخب. في قصة دينا مثلًا، حين «تذوب في ملابسها كشَمعةٍ لامسها الحياء»، يتحول الحياء من شعور إلى نار، في صورة شاعرية تمزج بين البراءة والاحتراق الداخلي. وفي أنفاس مكتومة، حين تقول: «كانت تنظر من خلف الباب، وتكتم ضحكتها بأنفاس الخوف»، يصبح الخوف كائنًا مجسّدًا، لا شعورًا داخليًا فقط، في لعبة بلاغية بسيطة لكنها دالة. أما الإحالات الزمانية والمكانية في المجموعة ليست مركزية، بل عابرة، لكنها تخدم القصص بخفة. الزمان غالبًا داخلي، ممتد داخل وعي الشخصية، رغم وجود إشارات إلى «زمن المدرسة» أو «الحمّام» أو «عيد الفطر» أو «الحظر أثناء الكورونا»(( قصة بيسان). المكان أيضًا ضيق – غرفة، ممر، شارع، مطبخ – وهو ما يعكس الضيق النفسي الذي تعيشه الشخصيات، خاصة الإناث. في قصة نيدانة، البيت يصبح ملجأً للقطط كما هو ملجأ للفتاة، كلاهما يبحث عن دفء وأمان في عالم قاسٍ. الشخصيات في المجموعة، كما ذُكر، يغلب عليها العنصر الأنثوي. النساء هنا طفلات أو فتيات في طور النمو أو أمهات حاضنات أو غائبات. حتى الذكور – حين يحضرون – فهم غالبًا أبناء، أو آباء متعبون، أو ذكور طفوليون. وهذا التركيز على الأنثى لا يأتي من باب التحيّز، بل لأن الأنثى – بوصفها موضوعًا للرقابة والسلطة والتربية – تعيش تعقيدًا سرديًا غنيًا يصلح للبناء القصصي. في قصة ليلى، مثلًا، يتداخل صوت الراوية الطفلة مع مشهد اكتشاف الأنوثة والبكارة والبلوغ، وسط بيت لا يحتمل الخصوصية، مما يجعل الشخصية تواجه صدمة النمو في غياب الإعداد النفسي. في حين تتراوح نهايات القصص بين المفاجئ والتأملي والساخر أحيانًا، لكنها في معظمها نهايات مفتوحة، تُركت لتُسائل القارئ. في فرح، تنتهي القصة بوعي الطفلة أن الشيخوخة ليست ضعفًا فقط، بل امتداد للحب. وفي سعاد، تُختتم القصة بدعاء الطفلة لله أن لا ينسى «ملابس العيد» في رسالة وجهتها إلى والدها المتوفى، مشهد ينطوي على براءة جارحة وعمق فلسفي عن مفهوم العدالة والغياب. ما يُميّز هذه المجموعة هو قدرتها على التقاط الأنفاس المكتومة فعلًا، ليس كعنوان فقط، بل كجوهرٍ لكل قصة فيها. تتبعثر الأنفاس بين قمع الأم، وخوف الفتاة، وكبت الصبي، وانكسار الرغبة، وهي كلها أنفاس لا تصل إلى التمام، كما لو أن كل شخصية هنا تعيش في عالم من الاختناق العاطفي والنفسي والاجتماعي. اللغة السردية في القصص هادئة، متأنية، تخلو من الزخرفة الثقيلة، وتعتمد على حيوية الجملة القصيرة والصورة الحسية والعبارة الحانية أو الصادمة. ثمة نبرة حنينية في معظم النصوص، تجعل من كل قصة لوحة داخل ألبوم حياة؛ كل قصة فيها لحظة «أخذ نفس» من زمن الغرق. إن «أنفاس مكتومة» ليست فقط توثيقًا للحظات هشاشة داخل الطفولة أو العائلة أو الذات، بل هي أيضًا تجربة فنية ناضجة، تثبت قدرة القاص على المزاوجة بين البساطة الظاهرة والتعقيد الداخلي، بين اللغة المتقشفة أحيانًا والانفجار المجازي حين يتطلب المعنى ذلك، بين الأنوثة كموضوع والأنثى كذات لها صوتها ووجعها وسؤالها الخاص. إنها مجموعة لا تكتفي بالوقوف عند حدود القصة القصيرة التقليدية، بل تنبش في البنية النفسية للسرد، وتضع القارئ في مواجهة نفسه، وتدعوه لأن يصغي لأنفاسه التي كتمها ذات خيبة، أو قمعها في صغره، أو ضاعت منه في زحمة الحياة. ختامًا، فإن مجموعة أنفاس مكتومة ليست مجرد قصص عن الفتيات، بل هي مرآة لمرحلة التحول، لوجع النمو، لأسئلة الطفولة البكر. هي نصوص تُصغي لما لا يُقال، وتمنح المهمّش صوتًا. لا شيء صارخ هنا، لكن كل شيء موجِع؛ كأن الكتابة نفسها تحاول أن تتنفس. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأربعاء 09-07-2025 11:52 مساء
الزوار: 37 التعليقات: 0
|