هذا أوَانُ الإشَارَة الصَّريحة إلى كَوْن النُّخْبَة المُثقَّفَة في المُجْتَمَع العَرَبيّ، في مُجْمَلِهَا، نُخْبَةٌ لا تُفكِّر إلَّا انطلاقاً مِنْ أصْل، وانتهاءً إليه، أو بتوجيهٍ منه، وذلكم هُوَ المَأزق الفِكْريّ الذي يحياه العرب في الألفيَّةِ الثَّالثة، حيث بَاتَت العَوْدَة إلى المَاضي باسم المُسْتَقْبَل قَاعِدَةً لا يُمْكن تجاوزها، وكأنَّ مُسْتَقْبَلنا مَرْهُونٌ بالنَّظَر إليه دوماً مِنْ زاوية التَّاريخ، فقد أضحى جَليَّاً أنَّ المُثقَّف العَرَبيّ في ظلِّ الرَّبيع العَرَبيّ ومآلاته المُؤْلِمَة وفق المَشْهَد الدَّمَويّ الذي يتعمَّق في عدَّة بلاد عَرَبيَّة، يعيش مَرْحَلَة ارْتِحَالٍ جَمَاعيّ إلى عَصْر النَّهْضَة، وهذا الارْتِحَال يعني التفكير في العَصْر الذي نَرْحَلُ ونُهَاجِرُ إليه، لِنُفَكِّر مِنْ خلاله، ونصنع تاريخنا الآنيّ وفق أُسُسه، وبذلك تغدو المسألة مُعقَّدة ومُتَشَابِكَة عند التفكير بالمُسْتَقْبَل، ما دُمْنَا نحن نُفَكِّر بعقليَّة عَصْرٍ مَضَى، ونحيا ضِمْن مَنْظُومَة عَصْرٍ لَمْ نَصِل إليه بَعْد. ولا يخفى، إنَّ الحَديث عن مَشْرُوعٍ نَهْضَويّ تقودُه النُّخْبَة المُثقَّفَة في مُجْتَمَعِنَا، اليوم، يُوَاجِه مَجْمُوعَة مِنَ الأسئلة المَوْضوعيَّة، ذلك أنَّ التفكير بهذا المَشْرُوع يَعْتَبِره البعض دُونَ مَعْنَى، بَيْنَمَا يَذْهَب طَائِفَة مِنَ المُثقَّفَين إلى ضَرُورَة إعادة النَّظَر جَذْريَّاً في الأُسُس البِنْيَويَّة التي قام عليها المُجْتَمَع العربيّ المُعَاصِر، مِنْ أجل نَقْد مَظَاهِر الاستبداد، والقَهْر، وفي سَبيل تَفْكيك هَذِهِ المَظَاهِر والوُصُول إلى صِيغَةٍ تُحقِّق الحُضُور الإنْسَانيّ للمُوَاطِن العَرَبيّ، وتُشْرِع الأبواب أمَام الإنجازَات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، مع مُلاحَظَة أنَّ شُيُوع فِكْرَة التحديَّات التي يَنْبَغي للنُّخْبَةِ مُوَاجهتها دُونَ ضَوَابِط عِلْميَّة دَقيقة، أضْفَى عليها غُمُوضَاً في دَلالتها ومَعْنَاها على حَدٍّ سَواء، حيث يَتَقعَّر البعض بحثاً عن معنى لُغويٍّ عَقيم، يَزِيدُ الفِكْرَة التِبَاسَاً، بَيْنَمَا يَتَجَاوَز البعض الآخَر بأنَّ التحديَّات الثقافيَّة والسياسيَّة في أبْهَى تجلِّيَاتها تُمثِّلُ تَرَاكُمَاً حَضَاريَّاً، ونَتَاجَاً فِكْريَّاً وثقافيَّاً، ويقوم هؤلاء بتحويلها إلى مَحْض تصوُّرٍ أيديولوجيٍّ يُقدِّمه كُلّ تيَّار أو حَزْبٍ سياسيٍّ مِنْ تلك التيَّارات الأيديولوجيَّة المُتَنَاثِرَة والمُتَنَاحِرَة في بلادنا، ممَّا يُفْقِدُهَا رَصيدها الشعبيَّ والاجتماعيّ، وتغدو النُّخْبَة والحَالَة هَذه مُجرَّد تَرَفٌ نُخْبَويّ لدى المُثقَّفَين وَحْدهم. إنَّ الاضْطِرَاب المَفَاهيميّ في ضَبْط التحديَّات التي يَنْبَغي على النُّخْبَة مُوَاجهتها، وتحديد أبْعَادها، يَعود في مُعْظَمِهِ إلى طُغْيَان الأيديولوجيا على العِلْم والمَوْضوعيَّة، بُغْيَة تَصْنيف، وتَفْسير، وحتَّى صِنَاعَة التَّاريخ وِفْقَ رَغَبَاتها، أمَّا الوَجْه الآخَر الذي تَقْتَضيه الحقيقة، أنَّ الخَلَل الرَّئيس في الخِطَاب الثَّقافيّ العَرَبيّ حَوْل النُّخْبَة يَنْبَثِقُ مِنْ عدم إدْرَاك مفهوم شَامِل حولها، فَضْلاً عن عَدَم التمييز بَيْنَ خُطُوَات سياسيَّة، أو اقتصاديَّة، تَنْدَرِجُ في سِيَاق عمليَّة إصْلَاحيَّة، وعمليَّة تنمويَّة مُتَكَامِلَة تَتَلَازَم مع الأبعاد السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة كافَّة، وتَصْنَع تَرَاكُمَاً على هذه الأصْعِدَة بصورةٍ مُتَوَازية، إذ النُّخْبَة المُثقَّفَة المَنْشُودَة لَيْسَت مُؤشِّرَات بَشَريَّة واقتصاديَّة فحسب، وإنَّما هِيَ عمليَّة توسيع لخيارات الإنسان في ظِلِّ أُطْرُوحَة الرَّبيع العَرَبيّ، وفي إطَارِ مُقَارَبَةٍ شَامِلَةٍ تَضُمُّ حُريَّة هذا الإنسان، وقُدُرَاته المعرفيَّة. وكانَ مَضْمُون ذلك الحَدْس بَديلاً رَاجِحَاً عن القول بأنَّ تصوُّرات أغلب المُثقَّفَين العَرَب حول قضيَّة النُّخْبَة وتحديَّاتها بعيدة تماماً عن حياة الإنسان العَرَبيّ وَوَاقِعِه الحَقيقيّ، ولا نَكَاد نَعْثُر في ثَنَايَا هذه الطُّرُوحَات على آليَّات وبَرَامِج وَاضِحَة المَعَالِم، مُقَابِل بَلاغَة لفظيَّة بَاذِخَة فقط، إلى دَرَجَة أنَّ البعض يعتقد أنَّه قَادِرٌ على تغيير العَالَم، ويَكَاد الاتِّفَاق يَنْعَقِد على أنَّ هذه المُقَارَبَات حول النُّخْبَة المُثقَّفَة المَنْشُودَة تُمثِّل تَضْليلاً أيديولوجيَّاً، واحْتِكَارَاً مَعْرفِيَّاً، إذْ كَيْفَ يُمْكِن تَحميل النُّخْبَة المُثقَّفَة وَحْدَها تبَعِاَت التقصير الشَّامِل نحو الإنْسَان العَرَبي، وبالتَّالي يُصْبِح الفَشَل حَاكِمَاً ومِعْيَارَاً على عَصْرِنَا هذا، أو اعتباره نَمُوذَجاً، وأوَّل ما يَكون مِنْ مَظَاهِر هَذِهِ الرُّؤَى سَيْطَرَة ذِهْنيَّة التقليد على ذِهْنيَّة النَّقْد، حَيْث تَسُود عَقْليَّة الاتِّبَاع، وتَغيب مَلَكَة الإبداع والتَّجديد، وعلى هذا الأسَاس يتمُّ تِكْرَار ذَات المَقُولَات دُونَ الإحاطة بتاريخيَّتها، أو أبْعَادِهَا، أو آفَاقها، فالمُثقَّف العَرَبيّ حين يُحَاكِم النُّخْبَة ذاتها فإنَّه يَعْتَرِفُ بِشَكَلٍ صَريحٍ بِنُضُوبِ رَصيدِ النُّخْبَة المُثقَّفَة المُعَاصِرَة، ويُؤكِّد الانصراف عن الإنتاج الثَّقافيّ إلى تاريخ المَنَاقِب والنَّمَاذِج والأوثان. ويُؤْنِسُنَا على المُغَامَرَة بِتَطَلُّب هَذهِ الغَاية أنْ تكون صِنْوَاً للدَّعْوَة إلى النُّكُوصِ الحَضَاريّ الشَّامِل، إذ المَأمُول لَيْسَ تَوَسُّل نَمُوذج ابن خَلدون وتلاميذه مِنَ المُفكِّرين العَرَب، وجعلهم أُمْثُولَات مَنَاقبيَّة لِفِكْرِنَا المُعَاصِر وحسب، وإنَّما مُنْتَهَى الغَاية هو مُوَاصَلة المَسير وِفْقَ رُؤْيَة عِلْميَّة ومَوْضُوعيَّة، أمَّا الوَجْه الآخَر الذي تقتضيه الحقيقة، أنَّ النُّخْبَة المُثقَّفَة سَيْطَرت عليها الرُّؤْيَة الأُحَاديَّة التجزيئيَّة، فهيَ لا تُقَارِب مَرْحَلَة الرَّبيع العَرَبيّ بصورةٍ كُلّيَّةٍ تَسْتَوْعِب المَضَامين السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، بِقَدْر ما تُركِّز اهتمامها على الجانبيْن الثقافيّ والفِكْريّ وَحْدَهُمَا، على أسَاس التطوُّر الخَطّيّ للتَّاريخ، دُونَ أنْ يُغَادِر أحَدٌ مُوْقِعَه الأيديولوجيّ، فاليساريَّون طُمُوحهم إعادة إحياء الفِكْر العَرَبيّ لِمُجَابَهَة الفِكْر الأُصُوليّ، والقوميَّون يَنْشُدُون مِنْ وراء إعادة قراءة التَّاريخ ترسيخ شرعيَّتهم المُتَهَافِتَة، أمَّا الإسلاميَّون تجذبهم نصوصه التي تُثْبِت أسبقيَّتهم التَّاريخيّة على الآخَرين في كُلِّ شيء. ويتعيَّن علينا أنْ نُضَمِّن هَذهِ الأنْظَار احتِرَاسَاً مُؤَدَّاه أنَّ المَسْؤوليَّة الأخلاقيَّة تَفْرِض علينا ألَّا نُحمِّل النُّخْبَة المُثقَّفَة، الآنَ، أكثر مِمَّا تَحْتَمِل، انطلاقاً مِنْ مُعَادَلَة تاريخيَّة أصْبَحَت ثَابِتَة هِيَ اختلاف شَرْط التطوُّر الاجتماعيّ والسياسيّ للتَجْرِبَة الأوروبيَّة والغَرْبيَّة حول الثَّوْرَات، والتغيير نحو الاكتمال الحَضَاريّ، عن البيئة العَرَبيَّة والإسلاميَّة التي جَرَى الرِّهَان على اسْتِنْبَات الرَّبيع العَرَبيّ فيها، وعلى الشَّاطئ الآخَر تبدو المَسْؤوليَّة التَّاريخيَّة على النُّخْبَة المُثقَّفَة في المجتمع العَرَبيّ أبْعَد مِنْ مَحْض التِزَام ٍ فِكْريّ، فَهِيَ مَسْؤُوليَّة وتحدِّيَات تاريخيَّة وحَضَارَيَّة تُؤكِّد قُدْرَتنا على قِرَاءَة وَاقِعَنا باستقلاليَّة تامَّة، واجْتِرَاح البَرَامَج والآليَّات المُنْسَجِمَة مع خُصُوصيَّتنا، ومِنْ هُنَا، فإنَّ النُّخْبَة المُثقَّفَة الحَقيقيَّة تَبْدَأ أُولَى خُطُوَات مَشْرُوعها الإصلاحيّ في اللحظة التي نُعْلِنُ فيها نِهَايَة الخَوْف، وبِدَايَة العِلْم، ونِهَايَة الأيديولوجيا، وارتقاء العَقْل. ومِنْ تَمَام العَدْل والمَوْضُوعيَّة، أنْ نُشِير إلى المَسَافَة الشَّاسِعَة التي تَفْصِل بَيْنَ المُفَكِّر والمُثقَّف العَرَبيّ مِنْ جِهَة، والإنسان العَرَبيّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إذْ سَاهَمَت النُّخْبَة المُزَيَّفَة التي قَتَلَتْهَا السُّلْطَة السياسيَّة مِنَ الخَارِج، وبعضَ أبناء النُّخْبَة مِنَ الدَّاخِل، في صِنَاعَة مُفكِّرٍ ومُثقِّفٍ لَيْسَ له أدنى تأثير، بل مُجرَّد سَائِح، لا يملك جذوراً في الثَّقَافَة العَرَبيَّة والإسلاميَّة وضوابطها، ولا يتكلَّم اللغة العَرَبيَّة، لأنَّه مِنْ دُونَ الخُصُوصيَّة الحَضَاريَّة العَرَبيَّة والإسلاميَّة تَغيب ضَمَانَة حُريَّة الفِكْر، ويَغيب كذلك حَقّ الاختلاف مع الآخَر، إذْ إخفاق تجربة الرَّبيع العَرَبيّ، إذا استثنينا قُدْرَة الإنسان العَرَبيّ على التغيير، قَدَّمَت مُؤشِّرَات عديدة حول عَلاقَة النُّخْبَة بالمجتمع، واقترابها أو ابتعادها عن نَبْض النَّاس وهُمُومهم، ولَيْسَ جديداً كذلك القول بأنَّ الثَّقَافَة العَرَبيَّة الصَّافِيَة لم تستعمل كلمة الثَّورة مِنْ أجل نُفُوذ أو مَكَاسب أو سُلْطَة، ولم تعتمد مبدأ الصِّرَاع بَيْنَ الطَّبَقَات، ولم تستخدم مُصْطَلَحَاً وَاحِدَاً مِنْ مُصْطَلَحَات الرأسماليَّة، والعَوْلَمَة، والحَدَاثَة، ولَيْسَ في قاموسها كلمات مثل إلغَاء الآخَر، والعُنْف الدينيّ، لأنَّ الثَّقَافَة العَرَبيَّة والإسلاميَّة النَّاصِعَة وِفْقَ رؤيتها الجَمَاعيَّة للحَدَث التَّاريخيّ تَكْفَل حَقَّ النَّاس في الوُصُولِ إلى الحَقيقة، مَرَّة وَاحِدَة، وإلى الأبَد. تأسيساً على هذا، فإنَّ أبرز تحديَّات النُّخْبَة المُثقَّفَة هِيَ وَهْمُ النُّخْبَة، حيث يسعى المُثقَّف إلى تنصيب نفسه وَصِيَّاً على الحُريَّة والثَّوْرَة، أو مُمثِّلَاً شَرْعِيَّاً ووحيداً للحقيقة، أو قَائِدَاً للمُجْتَمَع والدَّوْلَة، ولذا يجد المُثقَّف نفسه مُحَاصَرَاً، لَيْسَ بسبب مُحَاصَرَة السُّلْطَة السياسيَّة له، ولا نتيجة المَعَارك الثقافيَّة مع أفراد النُّخْبَة ذاتها، وإنَّما هِيَ نَرْجسيَّة المُثقَّف ذاته، وتَعَامُله مع نَفْسهِ بشكلٍ نُخْبَويّ واصْطِفَائيّ، أيْ اعتقاده بأنه يُمثِّل الأُمَّة، والدَّوْلَة، وهذا هُوَ ثَمَن النُّخْبَويَّة بحيث تَزْدَاد عُزْلَة المُثقَّف، ولهذا فإنَّ المأمول مِمَّن عَرَكَتْهُم تجربة الحَّاضِر والمَاضي مِنْ أبناء النُّخْبَة المُثقَّفَة أنْ يكونوا في صُفُوف النَّاس، ومَعَهُم، ومِنْ أجلهم، وبذلك يستحقُّوا جَدَارَة النُّخْبَة، ورِيَادَة المُجْتَمَع. في السياق ذاته يَنْبَثق أمامنا تحدِّي أوهام الحُريَّة للمُثقَّفين، وهِيَ اعتقاد المُثقَّف بأنَّه قَادِر على تَحرير المُجْتَمَع العَرَبيّ مِنَ التخلُّف، والاستبداد، وهو وَهْمٌ قَادَ المُثقَّف نحو فَقْر العَطَاء، ونُضُوب الإنتاج الثقافيّ، والفِكْريّ، بمعنى أنْ يتخلَّى المُثقَّف عن مُمَارَسَة دور الشُّرْطِيّ إذا أراد أنْ يُحْسِنْ قراءة الأحداث، إذْ حِرَاسَة الأفْكَار هِيَ بِحَدِّ ذاتها مَقْتَلها، حتَّى لو كَانَ الأمر يتعلَّق بالحُريَّة، والديمقراطيَّة، والعَقْلَانيَّة، فالحُريَّة تغدو واقعاً فِعْليَّاً يحياه أبناء النُّخْبَة المُثقَّفَة مِنْ خِلَال خِطَابهم العِلْميّ، وشُعُورهم بالانتماء لِخُصُوصِيَّة ثقافتهم، وتطبيقهم مَظَاهِر المُوَاطَنَة الحَقيقيَّة مع أبناء النُّخْبَة، وبقيَّة النَّاس في المُجْتَمَع. أمَّا ثالث تحديَّات النُّخْبَة فهو وَهْمُ الهويَّة، بمعنى اعتقاد المُثقَّف العَرَبيّ
أنَّ بإمكانه الحِفَاظ على حقيقتهِ كما هِيَ طَوَال الوقت، بالتَّطَابُقِ مع أُصُوله، أو الالتصاق بذاكرته، أو حِمَاية تراثه، وهو وَهْمٌ يجعل النُّخْبَة المُثقَّفَة العَرَبيَّة تحيا داخل قَوْقَعَة، وتتصرَّف كَحَارِسٍ للهويَّة والأفكار الخاصَّة بها، وهو ما يَحُول دونَ إبداعها أو تجديدها كما ينبغي أنْ يكون، وبالتَّالي مِنَ الأهميَّة بمكان خُرُوج المُثقَّف العَرَبيّ، اليوم، مِنَ الأَسْر الذي أدْخَل هو نفسه فيه، مِنْ أجل الاهتمام بأفكار، وطُمُوحَات، الإنسان العربيّ المعاصر، ويرصد نقاط القوة والضعف من أجل الاستفادة من هذه التجربة للمستقبل القريب والبعيد، وهنا تحديداً، يبرز التحدِّي الرابع وهو وَهْمُ المُطَابَقَة ومَفَاد المُطَابَقَة أنَّ الحقيقةَ جَوْهَرٌ ثابت، وأنَّ النُّخْبَة المُثقَّفَة تحيا في وَهْمٍ، وتُفكِّر في وَهْمٍ آخَر، وتَنْتَظِرُ الثَّالث، أيْ أنَّ المُثقَّف يَتَنَاقَضُ مع نفسه، وفِكْره، فهو يدعو إلى الحُريَّة ولا يُطبِّقُهَا في بيته، ويُطَالِب بالديمقراطيَّة بينما لا يُمَارِس سِوَى القَمْع، فالمَأمُول مِنَ النُّخْبَة المُثقَّفَة العَرَبيَّة أنْ يُطَابِقَ قولها فعلها، وأنْ يَسْتوي خِطَابها مع سُلُوكها، وظَاهِرها مع بَاطِنها، وطُمُوحها الشُّخْصيّ يتوازى مع المصلحة العامة للإنسان في المجتمع. وما مِنْ شَكٍّ أنَّ أقسى تحديَّات النُّخْبَة هو وَهْمُ الحَدَاثَة، حيث يتعلَّق المُثقَّف العَرَبيّ بالحَدَاثَة بشكلٍ يَقْتَرِبُ مِنَ التقليد الأعْمَى، بحيث تغدو الأفكار، والرُّؤَى القَادِمَة مِنْ لَدُن الغَرْب مُقدَّسَات غَيْر قَابِلَة للنِّقَاش، بينما على المُثقَّف العَرَبيّ التفكير بالتَّثَاقُف، والتَّمَاهي مع المَنَاهِج العِلْميَّة، وتوظيف النظريَّات المُمَيَّزة، بدلاً مِنَ الاجترار المَعْرفيّ، الذي لا يقود سِوَى إلى إنتاج تَرْجَمَة فِكْر، ولَيْسَ إبداع، واجتراح، أفكار تعود بالنَّفْع، والبِنَاء، على مُجْتَمَعِنَا العَرَبيّ، وتُسَاهِم في نَهْضَتِه، بَدَلاً مِنَ تخديره، وهذا بَعْضُ الحَقِّ لا كُلّه، فَهَلْ تَمْلك النُّخْبَة المُثقّّفَة أنْ تقولَ شيئاً ذا جدوى عن مُسْتَقْبَلٍ لا تراه؟، ذلك أنَّ الصُعُوبَات التي تُوَاجه التفكير بهذا الأمر لا حَصْرَ لها، وزادُ المُفَكِّر والمُثقَّف والعَالِم فيها قليل، غير أنَّ الاجتهاد في هذا السياق لَيْْسَ ممَّا يمكن تجاوزه، حيث أنَّ مَنَاط المُستقبل ذو علاقة واضحة بِرَصْد الواقع، وبيان العَلاقَة بَيْنَ الوسيلة والغاية، وهذا ما جَعَلَ تاريخ النُّخْبَة المُثقَّفَة يتبلور في عدَّة أُطُر منذ بدايته حتَّى هذا الوقت، فقد أتى على المُثقّّف العَرَبيّ حِينٌ مِنَ الدَّهْر سَيْطرَ فيه عليه القَلَق والتوزُّع، وفُقْدَان الفَاعليَّة، والانكفاء، وضَعْف المُبَادَرَة، والاجترار التَّاريخيّ مِنْ زاوية، واتِّسَاع رُقْعَة التوثُّب والمُغَامَرَة مِنْ زاويةٍ أُخْرَى، وفي الحَالتيْن كانت النتيجة أنَّ تفكيرنا طَغَى عليه الطَّابَع السِّحْريّ لا العَقَلانيّ، وبَرَزَ بوضوح أنَّ القطيعة الفِكْريَّة بَيْنَ النُّخْبَة المُثقَّفَة والمجتمع وَصَلَتْ إلى أقصى أشواطها. ويُمْكِن القَوْل بأنَّ المُثقَّف العَرَبي، الآن، تَنازَعَهُ الاتجاه الاتِّباعيّ القَائِم على إلغاء العَقْل ذاته، والسُّخْط الكبير على قيود المُجْتَمَع الجَديد وضَلاَله، ورَفْض أيّ حَاضِرٍ يَخْرُجُ عن مُخطَّطَات الماضي، واتجاه عَصْر النَّهْضَة الذي كرَّسَ مفاهيم التوفيقيَّة والتردُّد في الفِكْر العَرَبيّ المُعَاصِر، وبالتَّالي سَادَت إشكاليَّات الإيمان والعَقْل، والأصَالة والمُعَاصَرَة، والتُّرَاث والتجديد، والاستقلال والتبعيَّة، وهُوَ ما جَعَلَ هذا الفِكْر يَنْتَقِلُ مِنْ الأُحَاديَّة إلى الغُرْبَة عن نفسه، وعن هُمُومِ المُجْتَمَع العَرَبيّ في آنٍ واحَدٍ مَعَاً، وبصورةٍ أدقّ، انقسم عَقْلُ المُثقَّف المُعَاصِر إلى طَرَفيْ نقيض: أحَدُهُمَا يَرْفُض الحَاضِر على إطْلَاقه، والثَّاني يَرْفُض المَاضي على إطْلَاقه أيضاً، وكانت النتيجة أنَّ رُوَّاد النَّهْضَة والتقدُّم في مُجْتَمَعِنَا أصبح لِزَامَاً عليهم أنْ يقاتلوا على عدَّة جَبَهَات لإثبات أنَّ الإنسان العربيّ جَديرٌ بأنْ يرتقي إلى مستوى الحَضَارَة الإنسانية التي وصَلَتْ إليها الأُمَم الأُخْرَى.
المصدر: جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 23-05-2025 07:59 مساء
الزوار: 45 التعليقات: 0