في تسعين دقيقة، فرح بها الجمهور، الذي افتقد شعراء، كان يعدّهم من المبدعين.
نبيلة الخطيب، المرهفة، الولود بالصور والودود بالموحيات والعتابيات، وراشد عيسى بكلّ مغامراته وتحسسه التفاصيل التي لا تكاد تبين بشهقاته على هذا الّذي ضاع، وعبد الكريم أبو الشيح، المصطلي بنار حوران والوطن،.. كانوا يقرأون، باستمتاعٍ، كلٌّ قد علم وجهته، عند جمهور مزيج، فيه المثقف والشاعر والهاوي والمحترف الصّامت، وفيه شباب أطلقوا على أنفسهم تجمّع(ناشرون للعلوم والثقافة والأدب)؛ جاءوا يؤازرون، ويشهقون مع الشعراء، الذين حظي بشرف تقديمهم كاتب هذه السطور.
التوليفة، التي اشتغل عليها المركز الثقافي الملكي، أسابيع؛ يُعدّها ليوم مثل هذا بين جاراته من المؤسسات الوطنيّة المعنية بالثقافة، عاش معها وزير الثقافة أستاذ أدب الأندلس د.صلاح جرار، بكلّ انفعالاته، حتى  بانت نواجذه، وهو يستعيد عهداً مضى في قاعة الدرس وربيع غرناطة وقصر الحمراء، وكأنّ الشعراء علموا بما يُفرح هذا الوزير، الذي لم ينتدب رعايةً، فكفى الشعراء والجمهور غياب شعراء بالعشرات، (كانوا) محطّ اهتمام هذا الوسط؛ وكأنّهم اتفقوا على اللاحظور.
فرسان الأمسية توافروا على شهادات أكاديميّة، واستفادوا من النظري والتطبيقي في قول الشعر؛ فانطلقت الخطيب، الحاصلة على آداب اللغة الإنكليزية، تصدح: (قاسمتُها  دمَها، حرارةَ  قلبِها/ أنفاسَها، حتى كرى الأجفان/ضَمِنَتْ ليَ النُّعمى وضَمَّـتْ نارَها/ فأنا قـريرُ العـينِ  وهْيَ  تُعاني/ أماهُ  كيف  يذوبُ  فـي  خفَقـاتِهِ/ قلـبٌ يحاكي فُسْحةَ  الأكـوان؟!)،.. لتقرأ، مُحرَجَةً القصيدة التي حفظها كلّ محبيها، وطولبت بها، بصوتها الحنون: (ماذا أتى بكَ؟! قال: الوجدُ والولَهُ/ فطرتُ زهواً وخِلتُ الكونَ لي ولهُ/ وكيف تُقبل، والأيامُ غاديةٌ/ عَلَيَّ تحملُ طيفَ العمر أولَه؟!).
أستاذ اللغة العربية وآدابها د.عيسى، تخلل وجدان كلّ أنثى، فلعب، وتماوج، وأسقط ذاته، بل رمى نفسه في حضن النّص، يفتّش عما يروي، وهو إذ يصّعّد، تُحبس الأنفاس، لتضطرم الأكفّ إعجاباً بهذا الفارس، الذي اكتوى بين وصايا عند البئر القديم ظلّت ترفّ بين عينيه، وهذا الجسد الصارخ، المنتصب، الذي لم يُخلق إلا للشعراء. قال عيسى: (برئتُ من الهوى وبرئتُ منّي/ ومن كذب الغيوم الواعداتِ/ ففي بئر الضَّلال رميتُ قلبي/ إلى جوع الأفاعي اليائساتِ/ وفي سفح الجنون نثرتُ جسمي/ موائد للطيور الجارحات/ وقلبي حين غادر وكر صدري/ تعرقل بالجبال النائمات/ ومزّع شرشف الغيم المدلّى/ وقهقه للنجوم الخائفات/ ولمّا جاء عينَ الشمس أغضت/ كما تبكي الأثيمةُ في الصلاةِ).
أبو الشيح، الحاصل على بكالوريوس اللغة العربية وآدابها، اشتغل على (يوسف) النبيّ، اشتغالاً محموداً، وجميلاً، بالرغم من كلّ هذا الاعتراف الصريح:(أنا لستُ يوسفَ/ لستُ جميلاً كيوسفَ لكنني/ إذا ما تأخرتُ يوماً/ ولم آتِ مجلسهنَّ/ وفي راحتيَّ نبيذُ المساءِ/ ووعلٌ تأهّبَ كي يستفز ّ السكونَ/ ويستمطرَ الغيمة الخائفةْ..../ إذا ما تأخرتُ يوماً/ يُقطـّعنَ أحلامهنَّ النساءُ/ ويبذرنها في طريقي/ لعلي إذا عدتُ يوماً/ يصيرُ غماماً على راحتيَّ اللقاء).
الخطيب، واصلت عتابها، في جولة المنصّة الثانية، فقرأت: (ماذا أتى بك/في هزيع الغفلة الأولى/ والروحُ سابحةٌ/ تجوبُ الشعرَ/ ظمأى للرحيق؟!/ فاجأتني بالصبح/ متكئاً على الخروب/ ما زال موعدنا بعيدا/ ما زلتُ أبحثُ/ عن رسوماتٍ تليقُ/ بنقش حنّائي/ وأجمعُ زهرة الشفق/ المُوَشّى بالندى/ أهديه للأيام/ عقداً من عقيق).
ليقرأ مدير الأمسيّة قصيدة عيسى الفلسفيّة الجديدة(أنثى الحقيقة): (تخالسني أنثى الحقيقة مكرها/ وتُعتم بي حتى أطارد ومضها/ وإن نبَضتْ مني على حين خمرةٍ/ تفزّ بلا وعيٍ وتسرق نبضها/ بعثت لها ذئباً من الغيظ فاتكاً/ فراودها أنّى تغاوت وعضّها/ فما أنّنت إلاّ وروّض جمرها/ وما شمّصت إلا وفلّع أرضها/ وفنّدها لثماً وفغماً وغفّها/ ومَنْجَلَها حتى استكانت وخضّها/ فظنّ بها حملاً، فخابت ظنونه/ ولم يدرِ أنّ البدء أنكر حيضها).
الشاعر أبو الشيح، الذي راع وزيرَ الثقافة شعرُهُ في أمسيّة بالرمثا، المحافظة، غزل على هوى الوزير جرار في تخصصه، فقرأ: (صُب لي من لحظك الفتان واملى/ من رحيق الشوق كأسي/ إن كأسي من سوى خمريك ملاّ/ خمرةٍ من فيك يلقى/ في حُميّاها غريبُ الروح والأوطان أهلا/ اسقنيها سلسبيلا كلذيذ الشعر وادني/ من شغاف القلب بعض اللحن رتلا).
الخطيب لم تقف عند القصيدة أو القصيدتين، أو ترتّب أوراقها، فكانت رئيسة رابطة الأدب الإسلامي في الأردن، حاضرةً لتنهل من (سيرة الماء) الأبيات: (وردية الدمِ في عروقي/ أنتِ يا بترا/ قدٌّ يميسُ مع الجبال/ خدّ توَشّيه الظلال/ ظمأ يُعربدُ في عروقي/ أين مني فارس الماء الزلال؟!/ مَن ذا يبلّ عروقيَ الظمأى/ أدلّلهُ../ أظلله بوارف خضرتي/ أسقيه ترياقي/ أهدي له فرحي/ فلا يظمى على مر العصور/ من مائه أروى مليّا/ فأصب روحي في عروق الساقيَ الظمآن/ أغدِقُ خضرتي/ والعمرُ يونق في يديه/ وأحيلُ كلّ مباهج الدنيا إليه/ للماء فورته التي شدّت حنيني للحياة/ هبني رضابَ العمر أرشفه/ فيحلو المر في حلقي/ وتنتعش الخلايا في تفاصيلي/ يدغدغ وحشتي وجدٌ/ يُذوّب أضلعي في راحتيك/ أقبلْ فداؤكَ نبضُ قلبي/ واسقني..).
تواصلت الجولات، وغرق راشد عيسى على تأوهات الجمهور وسخونة الفتيات واستذكار النساء أيّامهنّ، فلعب على تفاصيل نهدت وقباب تهاوت وألسنة من اللهب، ليدهش بالمقطوعات الومضات التي تستدعي جيوشاً من التخيلات: قال إنه فيكلّ خريف يشعر بالعار لأنه لا يملك قمصاناً تستر عري الأشجار، وهو يعتذر من السنابل بأنه ليس قاتلاً بل من حقه أن يلحق الرغيف بالمناجل، كما أن قريته بابٌ عالٍ يدخله مرفوع الرأس أما مدينته فبابٌ جد قصير يدخله والقامة قوس، وهو يعترف بأنه عند الحزن ليس ضرورياً أن يسقط أدمعه من عينه؛ بل عينه من دمعه؛ تماماً كالشمعة، ويسخر من السلحفاة كاهنة الثروة والوقت؛ التي لا يقلقها لغز الدنيا أو مغزى الموت، بل لا تحمل ذكرى الأمس ولا حزن اليوم ولا همّ الغد، ولذا لا تمتلك ساعة يدٍّ، أو  يورو، وينظر إلى عش الصقر الذي هو ليس غير قشّاتٍ، نظرةَ إكبار لأنه في قمة أنف الجبل العالي.
وبدا هذا الشاعر ذئباً- من طرازٍ فريد- لا يصبر على التصالح مع غزالاتٍ، كلمات، تائهة، ومع أنه يؤويها ويطعمها عشب المعنى، إلا أنه يسقيها دمه العذب، ويسير يستخرج عطر الصوّان؛ موحياً بفرادة الشعراء.
أبو الشيح، أشاح عن الصور العاديّة، ليتنافذ في صور الوطن، وهي قصيدة مدروسة تحمل ثيمة الشاعر الواقف على حدود النار: (في صباح بهِ شهوةٌ للمطر/مُولَعٍ باختصار المسافة ما بين فيروزَ والبنِّ وحُلمٍ يفِر/كنتِ تمشين في موكبٍ من رحيق الخيالِ على مقلةِ الوقتِ كالنجمة الخائفة/ مقلةُ الوقتِ مكتظةٌ بالصورْ../ صورةٌ للوطنْ...حين تراهُ يمدُّ ذراعيهِ احتفاءً بأنكَ عدتَ إليك وألقيتَ عن كاهليكَ اغتراباً وعنْ../ بؤبؤيكَ ترابَ الكفنْ صورةٌ للوطنْ..حين تراه ترجّلَ نحو خيام الجياع وأمّلها بالمطر/صورةٌ للطفولةِ حين تعودُ إليكَ مكللةً بالوهن).
الأمسيّة كانت محطّ ثناء أمين عام وزارة الثقافة السابق د.أحمد الطراونة الذي أعرب عن تقديره للجمهور وتفهّمهم لظروف قصائد الشعراء وذهنياتهم واشتغالاتهم لمثل هذا اليوم، اليوم العالمي للشعر. وفي قراءة لما في نفوس المثقفين الذين التفّوا حول فرسان الأمسية الثلاثة؛ يحتفظون بصور هذه الاحتفالية (العظيمة)، كما قالت القاصّة هيام ضمرة، قالت الكاتبة عضو اتحاد الكتاب وفاء أسعد إنّها لا تجد عذراً لشاعرٍ تغيّب عن مثل هذا المساء، فالاقتصاديون، كما قالت، يجتمعون في أيامهم، والعمال كذلك، ونحن الشعراء لا نحسن إلا التشاحن والفرقة وعدم الحضور.
متلازمة (محمد سمحان وسعيد يعقوب) كانت حاضرةً، إذ أكّد سمحان أنّه جاء يدفعه الشوق وثيم الشعراء الذين يعرفهم جيّداً، ممرراً رسالة لطيفة إلى التلفزيون الأردني، بألا يظل يلازم الوزراء وينسى المبدعين.
شعراء عرب من غزة وفلسطين وسوريا والعراق، قالوا إنّ الشعر في الأردن متقدّمٌ في أفكاره وقراءته وحيرته بين الذّات والمحيط، مقدرين للأمسية نجاحها وللشعراء حضورهم وجمهورهم المنسجم.
الشاعرة الخطيب وعيسى وأبو الشيح قالوا إنّ هذه الاحتفالية من أميز الاحتفالات وأشدّها انسجاماً، حيث توافقت مع ما قُدّمت به من أنّها جاءت (لشعراء الموقف واللاموقف والحياد والحبّ والكره وكلّ المناسبات،..شعراء الوطن، واللاوطن،.. شعراء الرصيف، والشّرفةِ، والأرض والسّماء، يقودها أنقياء، تلوّثوا بالإبداع، في ظلّ مساء لا ندري فيه بما يُخَطّ في الصباح، أو تطلع به علينا الظهيرة،.. فهم- الشعراء- كشّافٌ للذّات والوطن والمحيط).