|
عرار:
بعد رواياته أرض السودان، ورعشات الجنوب، وتوتُّرات قبطي، وصائد اليرقات، وزحف النمل، و مُهْر الصياح، وتعاطف، والعطر الفرنسي، تصدر للسوداني أمير تاج السر رواية جديدة بعنوان غريب، وهو 366 (بيروت: الدار العربية للعلوم - ناشرون) وهو عنوانٌ ورد ذكرهُ غير مرة في مَتْن الحكاية. أولاها ص 9 « سميتها 366 كناية عن سنة لاهثة، مريضة، مؤلمة، قضيتها في حُبّك « والثانية ص 152 يقول مخاطبًا أسماء « إن رسالتي لن تصل إليك يومًا، ولكنّي مع ذلك أصرُّ على الكتابة واجبًا من عاشق نقيّ في زمن غير نقي « ويذكر العنوان مرة ثالثة ص 194 قائلا « أسرعت إلى دفتري حيث أكتب 366 ووقّعتُ باسم المرحوم عند آخر فقرة « وفي نهاية الرواية، وبعد أن ابتلع السارد نحو 60 حبة من المادة المنوِّمة على سبيل الانتحار، كتب تحت العنوان 366 عبارة اقتبسها من المجنون المعروف في حي المساكن باسم (شلال) يقولُ فيها « أجمل رقصة في الدنيا على الإطلاق هي التي يؤديها الديك عندما يُذبح « (ص201) رواية تراسُليَّة: ويتواصل بين هذه الإشارات ما يَرْويه السارد عن حكايته هذه مع العشق النقي. فهو يوقِّعُ رسالته التي لا تحمل عنوان مرسل قط إلا إذا كنا نتوقع من عاشق يبتلع 60 حبة منوّم، ويوقع بأصابع يده الهامدة كلمة (المرحوم) هو المُرسِل، وتلك التي يتكرر اسمها كثيرًا، من غير أن تظهر على مسرح الأحداث إلا مرة واحدة، هي المرْسَل إليها، وهي التي لا تُذكر لها سيرة، ولا مكان، ولا عنوان، ولا أسرة، ولا أقرباء يمكن أن يشيروا إليها، فتُعْرَفُ. فالساردُ، الذي هو بطل الرواية في الوقت نفسه، معلم كيمياء في مدرسة متوسطة بمدينة ساحلية في السودان، يدعوهُ قريبُه عبد القادر علي – الموظف في أحد المصارف- لحضور حفل زفافه في صالة للأفراح تعرف باسم النادي الطلياني. في الحفل يشاهد تلك الفتاة الحسناء التي وقع في حبِّها من النظرة الأولى. وقد عرف من خلال الأصوات، والنداءات، وسط الصَخَب، أن اسْمها (أسماء). وفي اللحظة التي وقع فيها بصرُه عليها تغير في شخصيته شيءٌ كثير، وانقلبت طباعه رأسًا على عقب. فبعد أن كان عزوفا عن النساء، زاهدا في العلاقة بأيٍّ منهن، لا يُفكر إطلاقا بالزواج كغيره على الرغم من أنه تجاوز الأربعين، وجد نفسَه على نحْوٍ مباغت متعلقا بتلك الفتاة، وهذا التعلقُ أزالَ ما كان بينه وبين المرأة - بصفة عامة- من جفاء، بل أعاده إلى أجواء مراهقته الغابرة، وإلى فوران الشباب بعد أن كاد الرأس يشتعل شيبًا. وتبعًا لهذا بدأ رحلاتِهِ المتوالية بحثاً عن سبيل للوصول إلى الفتاة، والتعرُّف إليها، وإلى أسرتها، وإلى الحي الذي تقيم فيه. وهل هو حيُّ المساكن، أم هو حيٌ آخرُ أكثر رقيًا، وساكنوه أكثر ثراءً. والفرضيَّة التي ينطلقُ منها هذا العاشق هي أنها لا بد أن تكون من أبناء حي البستان، وهو أرْقى أحياء المدينة، وأناسه مرفَّهون. يعيشون في فيلات مريحة، ولديهم خادماتٌ أثيوبيات، ويتنقلون بسيارات فارهة من أحدث الموديلات، لا في الحافلات العُمومي. وبيوتهم تحيط بها الزهور، ونباتات الزينة، والأشجار ذات الظلال الوارفة، وأين من هذا كله حيُّ المساكن الذي أنشأته الحكومة بعد الاستقلال، ووزَّعتْ ما فيه من بيوت شعبية على صغار الموظفين، وذوي الدخل المحدود من الفقراء، والمهمَّشين. الوزير بلا وزارة: على أنَّ مساعي العاشق للاهتداء لطرفِ خيط يقوده لتلك الحسناء أكسبته حساسيَةً جديدة قادته إلى حيّ البستان مرارًا. بعد أنْ أخفق في الحصول على صورة لأسماء، على الرغم من أنه بحث في الصور التي جرى التقاطها في العرس مرتين؛ مرة في الاستوديو الذي كلف بالتقاط الصور، وتظهيرها، ومرة أخرى بعد عودة قريبه العريس عبد القادر من شهر العسل. وقد تفتق ذهنه عن حيلة يحتال بها لدخول حيِّ البستان دون إحساس بالحَرَج، فتظاهر بشراء بيت لأحد أقاربه العاملين في الخليج، وكان يرمي من ذلك لمشاهدة بيوت كثيرة مما يُعرض لعله في إحدى المناسبات يعثر على أسماء، أو على من يعرف عنها شيئا، ولكنَّ هذا التدبير لم يفده. وذات مرة سمعَ وهو يتمشّى في حي البستان هاتفا يهتف به أستاذ .. أستاذ .. وتلفَّت نحو صاحب الصوت، فكانت المفاجأة: طلحة رمضان - الوزير السابق للتخطيط- فهذا الوزير أحد ثلاثة أشخاص لمَعوا من حيّ المساكن، وهو الآن وزير بلا وزارة، أي « وزير سابق «. تحدثا قليلا في الشارع قبل أن يدعوه الوزير للبيت، وفي الأثناء طلب منه أن يرشح له مدرسًا يعطي أصغر أبنائه (همام) دروسًا خصوصية، فما كان من السارد إلا أن وجدها فرصة فاغتنمها، وتسلم شيكا مسحوبًا على المصرف الذي يعمل فيه قريبه عبد القادر، وذلك بدل أتعابه مقدمًا عن الشهر الأول. لم تكن النقود- بالطبع - هي غاية السارد من قبول العرض، وإنما غايته أن يجد سببًا مقبولا للتردُّد إلى حيِّ البستان دون أن يكون في تردّده هذا ما يُحرجُهُ، أو يُظْهرُه بمظهر المتطَفّلين. في هذا البيت اكتشف ما ظنَّه طرفَ الخيط، فقد سَمع في أثناء الحديث اسم (أسماء) يتردَّد على الألسنة، فظن أنها الفتاة التي شُغف بها، لكنه لم يلبث أن اكتشف خطأه؛ فهو اسم لشيخة الزار الشهيرة (ص156) ومن قبل كان قد اعتقد أنَّ من حقه الاعتراض على كل من تسمى بهذا الاسم، وأصيب بالرعب عندما علم بنيَّة (والي) شقيق (ليلك) - زوجة الوزير بلا وزارة - الزواجَ من فتاة اسمُها (أسْماء) فخشي أنْ تكون (أسْماء)هذه هي التي رآها في زفاف الطلياني. وقد تردَّدَ في أنْ يفترض وجود نساء أخريات من حيِّ البستان يناديْنَ بهذا الاسم، كأنّ الله لم يخلق إلا أسْماءَه هذه. في بيت الراوي: وأما الحدَث الذي يهزّ الكثير من قناعات الراوي، فهو ما جرى في منزله بحي المساكن. فعند عودته إليه ذات ليلة من حي البستان، وجد الكهرباء مقطوعة كالعادة، فتح الباب، وأخذ يتلمَّسُ طريقه نحو الشموع الموضوعة على الطاولة، في وسط الصالة ليشعلها، فوقعت الشموع وارتطمت بجسْم غريب، وما هي إلا ثوان حتى فوجيء بوجود ثلاث جثث ملقاةٍ حول الطاولة، فأخذ بالصراخ الذي دفع بالكثيرين للتجمُّع في المنزل، وفي الحال حضرت الشرطة يتقدمها القبطي قدسي قريانوس. وتحفَّظت الشرطة الجنائية، لا على السارد وحْدَه، بل على بعض الجيران أيضًا، ومنهم فاروق المُلقّب بكولمبوس. وأيًا ما يكُن الأمر، فإنّ الراوي شُغلَ بهذه الجريمة، وأدْخلَ السجن، إلى أنْ حضر الوزير بلا وزارة ، فأقنع الأمن ببراءة الراوي. ثم تكفَّله، وجرى إطلاق سراحه، وإعادته لتدريس (همام) في بيت الوزير كالعادة، على الرغم من أن الراوي اعتذر عن الاستمرار في التدريس، لما لحق بسمعته نتيجة الجريمة التي وقعت في بيته. وفي الأثناء بدأت شكوك الراوي تحوم حول زميله معلم الكيمياء (شمس العلا) الذي استبدل اسمه بآخر، هو عاصم، نزولا عند رغبة خطيبته التي تنتسب لعائلة من « الذوات «. وسبب هذه الشكوك أن القتلى لم يُعرف كيف قتلوا، ولا بماذا قتلوا، فكلّ التحاليل لم تستطع معرفة سبب الوفاة، إلا أنْ يكون كيماويًا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تذكَّر الراوي أنّ الشخص الوحيد الذي يمتلك نسخة من مفتاح البيت هو (شمس العلا) كان قد أعطاه إياه بعد اختفاء أخيه بخاري لعله يلزمه ذات يوم. وقد تخيَّل السارد السيناريو على النحو الآتي: فالقاتل استدرج الرجال الثلاثة، وهم فلاحون باعوا أبقارًا في سوق الحلال، وأخذهم لمنزل الراوي مدعيًا التفاوضَ معهم على صفقةٍ ما، وهناك قتلهم، ثم أغلق الباب بالمِفتاح، وغادَرَ البيت بعد أن اختلس النقود التي كانت في حوزتهم في حينه، وهذا يفسّر ثراءَه المفاجئ بدليل استبدال السيارة بدراجته النارية القديمة. واللطيف في الأمر أنّ زميله السابق (شمْس العلا) لم يُنكر، بل صرَّح بذلك دون أن يُسْأل، قال: « المادة كانت في إحدى شموعِك. وقد نظفْتُ المكان « وقال، وهو يعيد إليه نُسْخة المفتاح: « الأشخاص الثلاثة أغبياء، ويستحقون الموْتَ، لا الحياة « (ص 184) أما وقْعُ هذا الاعتراف على الراوي، فكانَ صادمًا، وكبيرًا. ففي ذلك الموقف يتجلى الفارق بين موقف العاشق النقيّ، وموقف الخائن القاتل غير النقيّ، الذي إئتمن على بيت زميله، فخانَ الأمانة بطريقة بشعة تنمُّ على عَدَم الإحساس بالمسؤولية . .رُويت هذه الحكاية بقالب ساخر عوَّدنا عليه المؤلف في رواياته الأخرى « صائد اليرقات* « و «العطر الفرنسي * « فهو كاتبٌ كوميدي في المقام الأول، بيد أن السخرية في رواياته تبقى رهينة الاعتدال الذي يُعزِّزُ الغاية من السرد، ومن رسْم الشخوص، الذين تتقلب بهم الأيام، ويتغيرون بتغير الأحداث، وتراكم الوقائع. فهو يكتبُ رواية عن الرواية التي تتحدَّثُ عن عذابات شخص يعيش حالة حبٍّ من طرف واحد لمدة سنة كاملة. وهذه سُخرية تتجاوز ما هو متوقّع، إذ هو يسخر من الرواية، ومن كتاب الروايات. تساؤلاتٌ: فما الغاية من هذه السخرية إنْ لم تكن على صلة بالحكاية المخترعة في 366 ؟ وما الغريبُ في أنْ يعجب رجلٌ أربعيني بامرأة رآها مرة واحدة في حفل زفاف؟ الغريب هو أن هذا الرجل يحتلّ بؤرة السارد الساخرة، فنحن نتابع ما يقوله، ويكتبه، في رسالته التي لن تصل أحدًا، وهذا يعني أنَّ السُخرية هي من الأربعيني لتخليه عن كثير من طباعه، وعما كان يؤمن به، لا لشيء، إلا لأنه أعجب بتلك المرأة التي كأنَّ الله لم يخلق على شاكلتها امرأةً أخرى. وعلى الرغم من أنه لا يعرفها، ولا يعرف من أين هي، يقضي عامًا كاملا بأيامه، ولياليه، يحاول أن يجد ما يرشده إلى هذه المعرفة، وإلى العنوان، إن كان لها عنوان. ونحن نلاحظ سخرية الكاتب أيضًا من السارد الأربعيني، وهو يزاول لعبة الأسماء تارة، والادّعاء بالبحث عن منزل للبيع، أو البحث عن صور معارفه في حفل الزفاف، أو مراقبة ما يجري في منزل كولمبوس، أو قريبه العائد من شهر العسل عبد القادر، فكل ذلك يفيض بالسخرية. علاوة على أن حيّ المساكن لا يسلم من دعاباته المُضْحكة، فأحد الذين لمعوا من أهله وزير بلا وزارة، والآخرى بائعة هوى. ألا يجدُ القارئ في أسماء، التي هي ضالة السارد المنشودة، وبغيته المفقودة، رمزًا؟ وهل ترمز للسعادة في الحياة الدنيا لذا فكر بالرحيل المبكر لعله يجدها في الآخرة؟ ألا نجد في رحلاته التي تشبه رحلات أوديسيوس في عرض البحار عائدًا إلى إيثاكا، وإلى محبوبته بينلوب، ما يوحي لنا بالمُوازنة، فإذا كان أوديسيوس، وهو هنا الراوي العاشق، وجد ما يعيقه عن الوصول لبغيته، فإن المتطفلين في قصره ممَّن يطمعون ببنيلوب تبيَّن له ولها أنهم زائفون، وفاسدون، وقتلة، وإرهابيون. إذاً هو عشْقٌ نقي، في عالم بلا نقاء، وزمن بلا صفاء. اضطرابٌ فني: ومع جلّ هذه الاحتمالات التي توحي بغنى الرواية، وبما فيها من إتقان، لا تخلو من اضْطراب يَظهر بين الحين والآخر، فالكاتب الذي لم يذكر اسم المدينة التي تحتضِنُ الوقائع، يميل للاستطراد كثيرًا، والاستطراد نقيضُ التكثيف، والتركيز، فعلى سبيل المثال يذكر الدعوة للزفاف في النادي الطلياني، ولا يكتفي بهذا، مع أنَّ الهدف هو تعيين مكان الحفل، وموعده، فهو يستطردُ، فيحدثنا عن تاريخ هذا النادي، وما كان فيه من ملاعب تنس، وكرة يد، إلخ .. وكيف اختفى ذلك كلهُ، وأصبح صالة للحفلات.. مؤكدًا أن لا علاقة للنادي بالطليان. وهذا الاستطراد نكاد نجده في الكثير من المواقف، مما زاد في حجم الرواية. شيءٌ آخر يُلاحظه القارئ اليَقِظ، وهو حرص الكاتب على تقديم الشخصية بكلماتٍ موجزَة، واعدًا بالكشف عن أبعادٍ أخرى لها لاحقًا، لكن هذا قليلا ما يلتزم به، فقد ذكر شيئا قليلا من طباع شمس العلا (ص12) واعدًا بالمزيد لاحقًا، لكن هذا الذي وعد به لم يذكر، وإنما الذي ذكره هو زواجه، وتخليه عن اسمه غيْر السياحي، وثراؤه المفاجئ، والجريمة التي ارتكبها، وما كشفت عنه من قبح الطبع، وسوء الخلق. علاوة على أنَّ المؤلف يجمع بعض الوقائع جنبا إلى جنب، دون أن يذكر ما يصل هذه الحوادث ببعض، ففيما كان السارد في السجن بعد افتضاح الجريمة، فوجئنا بحضور الوزير بلا وزارة لكي يتوسَّط له، ويتكفَّله، وقد وردَ ذلك بطريقة تؤدي لسُؤال، وهو: كيف علمَ طلحة رمضان بوجود الراوي في السجن، وبالجريمة التي وقعت في بيته أصلا؟ أما إشارته لثراء شمس العلا، وتغييره الدراجة القديمة بسيارة، بسبب سرقته نقود القتلى الثلاثة، فإشارة متسرِّعة، لأن الفرق الزمني بين وقوع الجريمة، واكتشافها، أقل من أن يسمح للقاتل بإنفاق النقود المسروقة، وظهور علامات الثراء المفاجئ. على أن المؤلف يؤكد إخفاق التحاليل بالكشف عن سبب الوفاة، في إشارة منه لسبب كيماوي، وهذه فرضية مشكوك فيها، لأن التحاليل المخبرية تستطيع الكشف عن هذا، وذلك معروف جدا. وهذه الملاحِظُ تؤكدُ أنَّ الرواية كانت في حاجةٍ ماسَّةٍ للمراجعة قبل الطبع، ولمزيد من التنقيح قبل النشر. ** انظر ما كتبناه عن صائد اليرقات في كتابنا الصوت المنفرد، 2011، عمان: دار أمواج ص 231 - 236وما كتبناه عن العطر الفرنسي في كتابنا بلاغة الرواية ومسارات القراءة، 2016، عمان: دار فضاءات، ص 153- 162. المصدر : الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 29-01-2021 10:13 مساء
الزوار: 1498 التعليقات: 0
|