|
|
||
|
قوى الرعب لجوليا كريستيفا.. الأدب السردي على أريكة التحليل النفسي
اسم المفكرة والناقدة اللامعة جوليا كريستيفا (مواليد بلغاريا 1941) ليس غريبا على القارئ العربي، إذ يتكرر في الأوساط العربية وغير العربية في عدة سياقات ومجالات علمية ونقدية؛ من النقد الأدبي الحداثي وما بعد الحداثي، إلى اللسانيات والدراسات اللغوية، مرورا بالتحليل النفسي الذي شكل اختصاصا مهنيا وتأليفيا موسعا في حياتها، وصولا إلى الحركة النسوية المعاصرة التي أدرجت كريستيفا ضمن الشخصيات المؤثرة في تطورها، واستلهمت كتاباتها النفسية قبولا وجدلا في مجالات نسوية متعددة. ولكن، بالرغم من الشهرة الواسعة لكريستيفا، فإن مؤلفاتها الأساسية التي زادت على الثلاثين لم تحظ بالترجمة إلى العربية بشكل منظم، شأنها في ذلك شأن أسماء لامعة كثيرة في مختلف حقول المعرفة العالمية. أربعة من كتبها ترجمت باجتهادات فردية في الغالب إلى العربية، وهي: علم النص (ترجمة فريد الزاهي)، قصص في الحب (ترجمة محمود بن جماعة)، الحاجة المذهلة إلى الاعتقاد (ترجمة حنان درقاوي)، والكتاب الرابع هو كتابها المهم المتعلق بالتحليل النفسي للأدب والدين والأنثروبولوجيا، وقد ترجمته الأكاديمية الأردنية د. عرين خليفة، ونشر مؤخرا عن دار أزمنة في عمان. يضاف إلى ذلك ترجمة بعض مقالاتها وفصول متفرقة مختارة من كتبها، كما ترجمت طائفة من الحوارات التي اشتهرت كريستيفا بمهارتها فيها، وتعاملت معها بجدية بوصفها منصة أخرى تشرح من خلالها أفكارها واستبصاراتها التي تفيض بالجدة والذكاء والإضافة. هذا تقريبا كل ما ترجم لها عن الفرنسية أو الإنجليزية، التي حظيت بالترجمة الموسعة إليها منذ بدء زياراتها العلمية للأوساط الأكاديمية الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين، كأستاذة زائرة في جامعة كولومبيا العريقة. تكوين كريستيفا العلمي والنقدي مر بمراحل ومؤثرات مركبة. فقد درست في موطنها الأول (بلغاريا) إبان المرحلة الشيوعية حتى أنهت دراستها الجامعية الأولى. ويبدو أن توجيها عائليا من والدها ووالدتها قد أثمر عن إتقانها الفرنسية والإنجليزية مبكرا، إلى جانب الروسية والبلغارية بطبيعة الحال، حتى أتمت دراستها في مجال اللغات. وقد أهلتها قدرتها المتفوقة للحصول على بعثة أو منحة من الحكومة الفرنسية عام 1965، فانتقلت إلى باريس بقصد إتمام الدراسات العليا. ومن الواضح أنها، فور وصولها، قد ارتبطت بأفضل ما في باريس وحلقاتها العلمية والثقافية، وكان ذكاؤها وثقافتها المتشعبة، إلى جانب سجاياها الشخصية، سببا في قبولها والترحيب بها في دوائر يصعب اختراقها. غدت جزءا من حركة مجلة تيل كيل (Tel Quel)، وضمنها تعرفت إلى زوجها الروائي والأديب المؤسس والمحرر للمجلة فيليب سوليرز (1936-2023)، الذي لا شك في دوره الحاسم في اندغامها بمجتمعها الجديد وبكثير مما حققته وأنجزته من عطاء. كان حضوره في حياتها بمنزلة اليد الأليفة التي وصلتها بأفضل ما في باريس من خلال علاقات فيليب نفسه بالنخبة الباريسية اللامعة: رولان بارت، ودريدا، وفوكو، وجينيت، وجاك لاكان، وغيرهم. شهدت كريستيفا في سنيها الباريسية الأولى ثورة الطلبة والعمال المعروفة بحركة مايو 1968، هذه الحركة المرتبطة بالتمرد والتغيير وبدور الشباب والطلبة. لكنها -كما تقر- لم تكن جزءا منها لحداثة وصولها إلى باريس ونظرتها إليها من موقع "الأجنبية". لكنها كانت تتفهم ما سبقها وما تبعها من تغييرات وأحوال. كما أن ما اتجهت إليه كريستيفا نفسها في مرحلة ما بعد الثورة لا يمكن فصله عن مناخات الثقافة الفرنسية نفسها وما فرضته من تغييرات حاسمة في الجامعة والثقافة والمجتمع. قوى الرعب: دراسة في الدناءةجاءت ترجمة الكتاب المتميز بين مؤلفاتها (قوى الرعب: دراسة في الدناءة) إلى العربية بجهد طوعي اختياري من الناقدة والمترجمة والأستاذة الجامعية الأردنية د. عرين خليفة، عبر ترجمة وسيطة عن اللغة الإنجليزية، مستندة في تسويغ هذا الاختيار إلى دقة الترجمة الإنجليزية التي أنجزها ليون روديز، رئيس قسم اللغة الفرنسية بجامعة كولومبيا. وقد ترجم لكريستيفا سبعة كتب، نشرتها جامعة كولومبيا التي استقبلت كريستيفا كأستاذة زائرة في عدة مواسم تعليمية، واحتفت بجهدها العلمي وأسهمت في نقله مبكرا إلى الثقافة الإنجليزية، مما سمح لأفكارها وكتاباتها بالانتقال إلى مدى قرائي وبحثي واسع لم يقتصر على جمهور اللغة الفرنسية. تعد هذه الخطوة في ترجمة هذا الكتاب الصعب خطوة طيبة للإطلالة على عالم جوليا كريستيفا؛ العالم الشيق والشاق، السهل الممتنع، المتجول والعابر بين حقول اختصاص متشعبة. تؤكد لنا هذه الترجمة أن رحلة كريستيفا بين اللغات والثقافات قد انعكست في صورة هوية ثقافية مترحلة لم تعد تعترف بالاختصاص الضيق أو الدقيق، لصالح هذا الضرب المتداخل الذي يقتضي منها الإحاطة بحقول متباعدة والتعمق فيها، قبل أن تؤلف وتحاضر وتتجه إلى القارئ بما لديها. ولكن من قرأ شيئا من سيرتها وتكوينها وتفاصيل حياتها، التي ارتبطت بظروف بلادها أولا (بلغاريا) في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وظروف أوروبا الشرقية ثم الغربية التي هاجرت إليها ثم استقرت فيها نهائيا، يعرف أنها امرأة لامعة العقل، متحدية، غاية في الذكاء والمقدرة على تنسيق هذه الصعوبات والتكيف معها برضا ومتعة. وينتمي هذا الكتاب إلى مسار التحليل النفسي الذي اهتمت به كريستيفا وانتمت إليه مبكرا بعيد فراغها من دراستها الأدبية والنقدية. ويبدو لنا أنها أقرب ما تكون إلى تلميذة غير معلنة لجاك لاكان، الذي لم يكن بعيدا عن صلاتها، وكانت حلقاته و(سيمناراته) الغريبة تملأ النشاط النفسي في باريس. الكاتب: سكرتاريا التحرير والنشر بتاريخ: الإثنين 14-07-2025 09:04 مساء الزوار: 36 التعليقات: 0
|
|